الاستقلال الوطني اليوم- في مواجهة الاستبداد والتواطؤ والعجز العربي.

استلهمنا من المفكر الموسوعي طارق البشري (1933- 2021) – الفقيه القانوني والقاضي النزيه والمؤرخ المصري المتبحر – تصوره العميق للاستقلال الوطني، والذي ارتكز على ثلاثة دعائم جوهرية: الاستقلال السياسي، والاكتفاء الاقتصادي والتنموي الشامل، والتماسك الحضاري والثقافي الأصيل. وللجيل الصاعد الذي ربما يجهل كنه الاستقلال الوطني، نشير إلى أنه يعني التحرر الكامل من سطوة وهيمنة المستعمر الأجنبي، الذي بسط نفوذه في ربوع منطقتنا، وغالباً ما كان من القوى الغربية الطامعة.
يشرح البشري أن الاستقلال السياسي يتجسد في امتلاك إرادة سياسية حرة ومستقلة، قادرة على تبني القرارات التي تصب في مصلحة الوطن العليا وتحقق تطلعاته، وكان أبرز تجلياته في إنهاء الوجود العسكري الأجنبي على الأراضي العربية. أما الاستقلال الاقتصادي والتنموي، فكان يهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي وتلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين، ولذا رفعت شعارات مثل "نأكل مما نزرع، ونلبس مما نصنع". وقد أضاف البشري البعد الثقافي والحضاري، ليؤكد على أهمية الحضور التاريخي للإسلام، وبروز الهوية الإسلامية كقيم وأفكار وتنظيمات وحركات فاعلة في أواخر القرن العشرين، ومن هنا جاءت صياغته المبتكرة لمفهوم "التيار الأساسي"، ليشير به إلى القيم العليا الراسخة التي يستند إليها المجتمع، والتي تسود وتنتشر بين مختلف شرائحه وفئاته، وتصوغ وجدانه الجمعي، وتعبر عنه في مختلف جوانب الحياة ومناشطها المتنوعة.
لقد تأسس الاستقلال الوطني على مفهوم السيادة بمعناها التقليدي الراسخ، والذي يشدد على عدم تدخل الدول في الشؤون الداخلية لغيرها، وشهد هذا المفهوم تحولات تاريخية عميقة. ففي الحقبة التي سبقت الاستعمار – والتي امتدت من الربع الثاني من القرن التاسع عشر حتى الستينيات من القرن العشرين – ركزت الحركة الوطنية العربية جهودها على تحقيق الاستقلال السياسي التام عن المستعمر، وترافقت هذه المطالبة مع السعي الدؤوب لتحقيق الديمقراطية، كما تجلى ذلك في نشاط حزب الوفد المصري، وفي الحراك السياسي والشعبي في مختلف الدول العربية.
وفي مرحلة المد القومي العربي في الخمسينيات والستينيات، خطا العرب خطوة أبعد، حيث أضيف إلى البعد السياسي بعد تنموي واقتصادي، يهدف إلى تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين، وإن كان ذلك على حساب حريتهم السياسية. وبلغ هذا التوجه أوجه في حركة التأميم والتمصير التي قادها جمال عبد الناصر (1954-1970)، والتي اكتملت بتأميم النفط العربي، بعد الحظر النفطي العربي عام 1973. وظل التوجه نحو الاستقلال الاقتصادي يكتسب زخماً وقوة دافعة ذاتية منذ أواخر الخمسينيات وحتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي.
أما المكون الحضاري أو الثقافي، فقد قصد به قدرة الأمة على تقديم نموذج قيمي متميز، يعبر عن تطلعات الناس في فهم الكون والحياة ومكانة الإنسان فيهما، بما يختلف جذرياً عما تطرحه الحضارة الغربية في هذا المضمار.
ليس الهدف من هذه المقالة هو تتبع مصير هذه المكونات الثلاثة في واقعنا المعاصر، ولا حتى الخوض في الأسس المعرفية والسياسية التي يستند إليها هذا المفهوم، وإنما الغرض هو إعادة النظر في هذا المفهوم في ضوء الحرب الشرسة والإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون، وسط تواطؤ رسمي عربي فاضح، وخيبة أمل شعبية ممزوجة بالعجز.
ملاحظات ست
- أولًا: النمط السائد للحكم في المنطقة اليوم هو النمط الاستبدادي الحداثي النيوليبرالي، الذي تتناقض مكوناته الثلاثة مع مكونات الاستقلال الوطني بشكل قاطع.
- ثانيًا: تعتمد نظرية الأمن الإقليمي بشكل أساسي على القوى الخارجية، حيث عجزت الأنظمة العربية مجتمعة عن توفير الأمن إلا بالاعتماد على مزود خارجي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة في حقبة الحرب الباردة. وقد أصبح الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة أكثر وضوحاً، بناءً على طلب العديد من الدول، لمواجهة ما يسمى بالتهديدات الخارجية، خاصة من قبل إيران وحلفائها في الوقت الراهن، وقبلها صدام حسين، كما حدث في حرب الخليج الأولى عام 1991.
- ثالثًا: تمتلك بعض المكونات العربية فوائض مالية وقدرات استثمارية هائلة، مما مكنها من أن تصبح جزءاً متماهياً ومنسجماً في بنية الرأسمالية المعولمة. وتسعى هذه المكونات – خاصة في حقبة الربيع العربي، التي انطلقت موجتها الأولى في العقد الثاني من هذا القرن – إلى بسط سيطرتها السياسية والاقتصادية والثقافية أيضاً.
ففي المجال السياسي، قادت ثورة مضادة لإخماد الحراك الديمقراطي في المنطقة، وفي المجال الاقتصادي، رهنت القرار الاقتصادي الوطني للعديد من دول الإقليم بتدفقات المعونات والاستثمارات، وللمنظمات المالية الدولية، مثل صندوق النقد الدولي. أما في المجال الثقافي، فإنها تسعى للهيمنة الثقافية من خلال امتلاك القوة الناعمة، والترويج لنموذج دبي باعتباره جوهرة التاج في هذا المسعى.
هل هناك علاقة بين حديث توماس فريدمان – الكاتب في صحيفة النيويورك تايمز – المستفز حول المقارنة بين نموذج المقاومة وما أدى إليه من دمار، وبين نموذج غزة/دبي الذي يبشر بالرخاء والنعيم، أو بين قاهرة الجمهورية الجديدة وعاصمتها الإدارية الجديدة، وبين ما ذكرته في السطور السابقة؟ ربما. لم تكتف هذه المكونات العربية بالأدوار السابقة، بل مولت – ولا تزال – عدداً من الحروب الأهلية العربية في السودان واليمن وليبيا وسوريا. - رابعًا: قوى إقليمية غير عربية – أقصد إيران بشكل أساسي وتركيا إلى حد ما – احتلت بالسياسة والسلاح عدداً من العواصم العربية، بالإضافة إلى الاحتلال العسكري المباشر لأراضٍ عربية، كما هو الحال في شمال سوريا.
- خامسًا: أثبتت حرب غزة أن اتفاقات التطبيع – في طبعاتها القديمة والأبراهامية الجديدة – هي نموذج أكبر لدور يشبه دور السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، التي تحولت إلى عبء على المقاومة وتطلعات الشعب الفلسطيني، الذي تطالب أغلبيته بحلها، وفقاً لاستطلاعات الرأي.
أحد المكونات الأساسية لاتفاقات التطبيع هو الحفاظ على أمن إسرائيل من تهديد الشعوب العربية، وبالطبع المقاومة الفلسطينية. وزادت الطامة أن نموذج الحكم النيوليبرالي الأوتوقراطي الحداثي يجب أن يزودها بمقومات الحياة من غذاء وسلع – إن حوصرت – وعليه أن يضمن الأمن في غزة في اليوم التالي، ويحولها إلى دبي البحر الأبيض المتوسط. - سادسًا: لقد تفككت الروابط التاريخية بين الدول الأوروبية وأجزاء من أفريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا إلى حد كبير، حيث لم تعد الدول المستقلة تنصاع للقوى الاستعمارية التي حكمتها في الماضي.
وبالنسبة للعديد من دول الجنوب اليوم، فإن الاعتماد على الماضي الاستعماري القائم على المساعدات والتجارة لم يعد كافياً لتلبية احتياجاتها التنموية. ويعتمد نموها الحالي والمستقبلي على تنويع علاقاتها، أو التخلص من العلاقات القديمة لصالح علاقات جديدة. ومجموعة البريكس، التي تمثل 30٪ من حجم الاقتصاد العالمي، هي مثال واضح على ذلك، بالإضافة إلى موقف الانقلابات الأفريقية الأخيرة من الوجود العسكري الفرنسي والأمريكي على أراضيها.
مكونات الاستقلال الوطني
ما الذي تعنيه هذه الملاحظات الست وغيرها لمفهوم الاستقلال الوطني؟ أو بعبارة أخرى، ضد من وعمن يكون الاستقلال الوطني اليوم؟
- أولًا: تحرير الإرادة السياسية من خلال الديمقراطية. وهنا أحيل إلى القراءة الديمقراطية لمأساة غزة، التي قدمها الرئيس التونسي السابق الدكتور منصف المرزوقي على موقع الجزيرة، والتي يستنتج منها أن "للديمقراطية دوراً محورياً في مأساة غزة، وإن بآليات ومداخل مختلفة، سواء بإجهاضها في مصر، وقتلها في رام الله، وإفسادها في إسرائيل، وابتزازها في أمريكا".
ويضيف المرزوقي بعداً آخر لاستنتاجه، وهو الفشل الذريع للثورة المضادة في كل بلدان الربيع العربي، وانهيار صورة الاستبداد، نتيجة جبنه وتقاعسه أمام مأساة غزة، مما يعني أن الحراك الثوري سيعود إلى الساحة قريباً بحفيظة أقوى ضد أنظمة يمكن القول فيها: "أسد عليّ وفي الحروب نعامة". - ثانيًا: تحرير القرار الاقتصادي الذي تم ارتهانه للشركاء الإقليميين والدوليين وللمنظمات المالية الدولية. هذا التحرير يهدف في جوهره إلى تقرير السياسات العامة لصالح فئات اجتماعية أوسع مما هو مطروح الآن، ففي ظل النموذج النيوليبرالي، تتولى نخبة ضيقة تقرير السياسات لصالحها، وتحرم فئات عريضة من المواطنين من الاستفادة، وتكتفي ببعض برامج الحماية الاجتماعية التي تؤدي في النهاية إلى تخفيف معاناة هذه الفئات، دون أن تغير من أوضاعها شيئاً.
هل هناك علاقة بين انتشار الفساد وتزايد التفاوتات في الدخول والفرص والثروات وبين السياسات الاقتصادية والمالية المطبقة؟ وهل هناك علاقة بين حالة الخذلان الشعبي العربي الممتزج بالعجز، وبين الإنهاك السياسي والاقتصادي الذي تعاني منه هذه الشعوب، كنتيجة حتمية للسياسات النيوليبرالية الشرسة وعلو وطغيان الثورة المضادة؟
يرتبط المكون الأول بالثاني – أي السياسي بالاقتصادي – والثاني بالأول من زاويتين: السياسات الاقتصادية والمالية المطبقة لصالح من؟ ومن له حق تقرير السياسات باستقلال، بما يضمن أن تكون لصالح فئات اجتماعية متسعة من المواطنين؟ - ثالثًا: إدراك طبيعة التحالف الذي يقود الاستعمار اليوم، فهو لم يعد طرفاً خارجياً يهيمن بقوة السلاح فقط، وإنما هو تحالف يضم حكومات تنتمي إلى المنطقة، ولها تموضعها في النظام الرأسمالي العالمي، وتلعب وظائف لصالحه، كما تتحالف مع بعض مكوناته، ولكن لها أيضاً امتدادها في الداخل الوطني، بالتشبيك مع أجزاء من هياكل الدولة، بالإضافة إلى بعض القوى المستفيدة من سياساتها المالية – كفئات من رجال الأعمال – أو قوى عسكرية ذات امتداد اجتماعي، كقوات الدعم السريع في السودان، وخليفة حفتر في ليبيا.
في هذا البعد يمكن النظر من الخارج إلى الداخل، أو من الداخل للخارج، بمعنى أن هناك أصحاب مصلحة في هياكل الدولة العربية، ومحسوبيات عصبية بالمعنى الخلدوني – مالية أو قبلية أو طائفية – تسعى إلى الإقرار والحفاظ على امتيازاتها، عبر التحالف والاندماج في الشبكات الإقليمية والدولية المعولمة، بما يضمن تحقيق الصالح لهم، لا الصالح العام لفئات عريضة من الشعوب. - رابعًا: إن المكونات الثلاثة السابقة من شأنها أن تغير طبيعة السلطة العربية، التي بات تغييرها في قلب معركة الاستقلال الوطني، بالمعنى الذي أقدمه في هذا المقال.
بعد حرب عام 1948 تغيرت ستة نظم عربية، ولكننا اكتشفنا بعد عقود أن هذا التغير اقتصر على القائمين والمسيطرين على هيكل السلطة فقط، ولم يمس طبيعتها وجوهرها الأساسي. - خامسًا: أظهرت حركة الاحتجاج العالمية على الحرب في غزة أننا لم نعد أمام نموذج غربي يتطلب لمواجهته تياراً أساسياً، وإنما نحن بصدد نموذجين يتوزع عليهما العالم في شرقه وغربه وجنوبه وشماله. في النموذج الأول، نسترد فيه إنسانيتنا من خلال الحرية والعدالة للجميع، وفي النموذج الثاني، يصبح العالم متوحشاً وغير قابل للعيش فيه.
- سادسًا: امتلاك نظرية للأمن الجماعي تتضمن ثلاثة مكونات أساسية: أمن إنساني للشعوب يحافظ على الأمن القومي للدول، واستبعاد إسرائيل من هذا النظام الأمني، فقد أتت الحرب على غزة على التصورات التي حاولت الاتفاقات الإبراهامية أن تروج لها بدمج الكيان الصهيوني في نظامنا الأمني. وأخيراً وليس آخراً، إعادة صياغة دور المزودين الخارجيين للأمن، بحيث تقتصر وظيفتهم على المساندة والدعم لنظام أمن جماعي، يضمن مصالح الأطراف في الإقليم، ولا يهدد الاستقرار العالمي.
